الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن العربي: قَوْله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ}فِيهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:.المسألة الأولى: قَوْلُهُ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}: أَمْرٌ بِمُقَاتَلَةِ جَمِيعِ الْكُفَّارِ؛ فَإِنَّ كُلَّهُمْ قَدْ أَطْبَقَ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ، مِنْ الْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ.وَقَدْ قَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}.وَقَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِيهِ.وَقال تعالى: {جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ}.وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ}.وَالْكُفْرُ وَإِنْ كَانَ أَنْوَاعًا مُتَعَدِّدَةً مَذْكُورَةً فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فَإِنَّ اسْمَ الْكُفْرِ يَجْمَعُهَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَاَلَّذِينَ أَشْرَكُوا}.وَخَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ بِالْبَيَانِ فَقَالَ: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ».وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ وَالْغَايَةُ الْقُصْوَى..المسألة الثانية: قَوْلُهُ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ} الْآيَةَ: نَصٌّ فِي تَحْقِيقِ الْكُفْرِ، وَذَلِكَ أَنْ نَقُولَ: الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ أَصْلَانِ فِي تَرْتِيبِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمَا فِي الدِّينِ، وَهُمَا فِي وَضْعِ اللُّغَةِ مَعْلُومَانِ.وَالْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ لُغَةً أَوْ التَّأْمِينُ.وَالْكُفْرُ هُوَ السِّتْرُ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ حِسًّا، وَقَدْ يَكُونُ بِالْإِنْكَارِ وَالْجَحْدِ مَعْنًى، وَكِلَاهُمَا حَقِيقَةٌ، أَوْ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْأَمَدِ الْأَقْصَى وَغَيْرِهِ.وَقَدْ قَالَ شَيْخُ السُّنَّةِ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: إنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ لُغَةً، وَقَدْ أَفَدْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ.فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ كُفْرَ الْمَعَانِي جُحُودُهَا وَإِنْكَارُهَا فَالشَّرْعُ لَمْ يُعَلِّقْ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى كُلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ كُفْرٍ، وَإِنَّمَا عَلَّقَهُ عَلَى بَعْضِهَا، وَهِيَ الْكُفْرُ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ.وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الْآيَةَ.فَقَوْلُهُ: {لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ} نَصٌّ فِي الْكُفْرِ بِذَاتِهِ يَقِينًا، وَفِي الْكُفْرِ بِالصِّفَاتِ ظَاهِرًا: لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَوْجُودُ الَّذِي لَهُ الصِّفَاتُ الْعُلَا وَالْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى؛ فَكُلُّ مَنْ أَنْكَرَ وُجُودَ اللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَقَوْلُهُ: {وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} نَصٌّ فِي صِفَاتِهِ، فَإِنَّ الْيَوْمَ الْآخِرَ عَرَفْنَاهُ بِقُدْرَتِهِ وَبِكَلَامِهِ؛ فَأَمَّا عِلْمُنَا لَهُ بِقُدْرَتِهِ فَإِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْيَوْمِ الْأَوَّلِ دَلِيلٌ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى الْيَوْمِ الْآخِرِ.وَأَمَّا عِلْمُنَا لَهُ بِالْكَلَامِ فَبِإِخْبَارِهِ أَنَّهُ فَاعِلُهُ، فَإِذَا أَنْكَرَ أَحَدٌ الْبَعْثَ فَقَدْ أَنْكَرَ الْقُدْرَةَ وَالْكَلَامَ، وَكَفَرَ قَطْعًا بِغَيْرِ كَلَامٍ، وَقَوْلُهُ: {وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} نَصٌّ فِي أَفْعَالِهِ الَّتِي مِنْ أُمَّهَاتِهَا إرْسَالُ الرُّسُلِ، وَتَأْيِيدُهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ النَّازِلَةِ مَنْزِلَةَ قَوْلِهِ: صَدَقْتُمْ أَيُّهَا الرُّسُلُ، فَإِذَا أَنْكَرَ أَحَدٌ الرُّسُلَ أَوْ كَذَّبَهُمْ فِيمَا يُخْبِرُونَ عَنْهُ مِنْ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَالْأَوَامِرِ وَالنَّدْبِ، فَهُوَ كَافِرٌ، وَكُلُّ جُمْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ لَهُ تَفْصِيلٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي أَشَرْنَا، بِهَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي التَّكْفِيرِ بِذَلِكَ التَّفْصِيلِ، وَالتَّفْسِيقِ وَالتَّخْطِئَةِ وَالتَّصْوِيبِ؛ وَذَلِكَ كَالْقَوْلِ فِي التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ وَالْجِهَةِ، أَوْ الْخَوْضِ فِي إنْكَارِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَالْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ وَالْحَيَاةِ، فَهَذِهِ الْأُصُولُ يَكْفُرُ جَاحِدُهَا بِلَا إشْكَالٍ.وَكَقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ: إنَّ الْعِبَادَ يَخْلُقُونَ أَفْعَالَهُمْ، وَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ مَا لَا يُرِيدُهُ اللَّهُ، وَإِنَّ نُفُوذَ الْقَضَاءِ وَالْقَدْرِ عَلَى الْخَلْقِ بِالنَّارِ جَوْرٌ.وَكَقَوْلِ الْمُشَبِّهَةِ: إنَّ الْبَارِيَ جِسْمٌ، وَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِجِهَةٍ، وَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْمُحَالِ، وَإِنَّهُ تَعَالَى قَدْ نَصَّ عَلَى كُلِّ حَادِثَةٍ مِنْ الْأَحْكَامِ.وَهَذَا كُلُّهُ كَذِبٌ صُرَاحٌ، وَبَعْدَ هَذَا تَفَاصِيلُ يَنْبَنِي عَلَيْهَا وَيُجَرُّ إلَيْهَا، وَفِي التَّكْفِيرِ بِهَا تَدْقِيقٌ.وَمِنْ أَعْظَمِ الْإِشَارَةِ بِقَوْلِهِ: {وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الْإِخْبَارُ عَنْ النَّصَارَى الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ وَعَذَابَ النَّارِ مَعَانٍ؛ كَالسُّرُورِ وَالْهَمِّ، وَلَيْسَتْ صُوَرًا، وَلَا فِيهَا أَكْلٌ وَلَا شُرْبٌ، وَلَا وَطْءٌ وَلَا حَيَاةٌ، وَلَا مُهْلٌ يُشْرَبُ، وَلَا نَارٌ تَلَظَّى.وَقَوْلُهُ: {وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} إخْبَارٌ عَمَّا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ مِنْ التَّحْرِيمِ بِعُقُولِهَا فِي السَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ، وَمَا يَخْتَصُّ بِتَحْرِيمِهِ الْإِنَاثُ دُونَ الذُّكُورِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ الزُّورِ، وَعَمَّا كَانَتْ الرُّهْبَانُ تَفْعَلُهُ، وَالْأَحْبَارُ مِنْ الْيَهُودِ تَبْتَدِعُهُ مِنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي الْإِنْجِيلِ وَالتَّوْرَاةِ، أَوْ تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيهِ.وَقَوْلُهُ: {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} إشَارَةً إلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ الِاعْتِقَادِ لِلْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ..المسألة الثالثة: قوله تعالى: {مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}: وَفِي ذِكْرِهِمْ هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كَانُوا أُمِرُوا بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَأُمِرُوا أَيْضًا بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ مِنْ ذِكْرِ الرَّسُولِ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ تَخْصِيصًا لِمَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ الْعَامُّ عَلَى مَعْنَى التَّأْكِيدِ.الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: {مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} تَأْكِيدٌ لِلْحُجَّةِ؛ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُمْ مُقَدَّمَةٌ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، فَجَاءَهُمْ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَجْأَةً عَلَى جَهَالَةٍ.فَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَقَدْ كَانُوا عَالِمِينَ بِالتَّوْحِيدِ وَالرُّسُلِ وَالشَّرَائِعِ وَالْمِلَلِ، وَخُصُوصًا ذِكْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِلَّتِهِ وَأُمَّتِهِ؛ فَلَمَّا أَنْكَرُوهُ تَأَكَّدَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ، وَعَظُمَتْ مِنْهُمْ الْجَرِيمَةُ، فَنَبَّهَ عَلَى مَحِلِّهِمْ بِذَلِكَ.الثَّالِثُ: أَنَّ تَخْصِيصَهُمْ بِالذِّكْرِ إنَّمَا كَانَ لِأَجَلٍ قَوْله تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.وَاَلَّذِينَ يُخْتَصُّونَ بِفَرْضِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ صِنْفِ الْكُفَّارِ، وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى..المسألة الرابعة: [هل النَّصَارَى وَالْيَهُودُ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؟]: فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؟ قُلْنَا: عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَا يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ.الثَّانِي: أَنَّهُمْ، وَإِنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ فَإِنَّهُمْ قَدْ كَذَّبُوا الرَّسُولَ، وَلَمْ يُحَرِّمُوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا دَانُوا بِدِينِ الْحَقِّ..المسألة الخامسة: قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}: فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:أَحَدُهَا: أَنَّهَا عَطِيَّةٌ مَخْصُوصَةٌ.الثَّانِي: أَنَّهَا جَزَاءٌ عَلَى الْكُفْرِ.الثَّالِثُ: أَنَّ اشْتِقَاقَهَا مِنْ الْإِجْزَاءِ بِمَعْنَى الْكِفَايَةِ، كَمَا تَقُولُ: جَزَى كَذَا عَنِّي يَجْزِي إذَا قَضَى..المسألة السادسة: فِي تَقْدِيرِهَا: رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنُ زَنْجُوَيْهِ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ، وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا عَلَى الْوَرِقِ، وَإِنْ كَانُوا مَجُوسًا.وَكَذَلِكَ رَوَى مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، مَعَ ذَلِكَ أَرْزَاقُ الْمُسْلِمِينَ وَضِيَافَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.وَقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ وَيَجْتَهِدُ فِيهِ؛ مِنْ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَالِاقْتِدَاءُ بِعُمَرَ أُسْوَةٌ.وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي لُجَيْمٍ قُلْت لِمُجَاهِدٍ: مَا بَالُ أَهْلِ الشَّامِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَعَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ دِينَارٌ؟ قَالَ: إنَّمَا جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الْيَسَارِ.وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ: «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِرِيَّ»، ثُمَّ ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عُمَرُ فِي زَمَانِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُرَاعَى فِي ذَلِكَ الثَّرْوَةُ وَالْقِلَّةُ..المسألة السابعة: فِي مَحِلِّ الْجِزْيَةِ: أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَرَبًا كَانُوا أَوْ غَيْرَهُمْ.الثَّانِي: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إذَا رَضِيَتْ الْأُمَمُ كُلُّهَا بِالْجِزْيَةِ قُبِلَتْ مِنْهُمْ.الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَا تُقْبَلُ.الرَّابِعُ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: لَا تُقْبَلُ مِنْ مَجُوسِ الْعَرَبِ، وَتُقْبَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ.وَجْهُ مَنْ قَالَ: إنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَرَبًا كَانُوا أَوْ غَيْرَهُمْ تَخْصِيصُ اللَّهِ بِالذِّكْرِ أَهْلَ الْكِتَابِ.وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ الْأُمَمِ كُلِّهَا فَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ خَيْرًا. ثُمَّ قَالَ: اُغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ، اُغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلَيَدًا. وَإِذَا لَقِيت عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِلَالٍ، فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوك إلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ: اُدْعُهُمْ إلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنْ فَعَلُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى التَّحَوُّلِ عَنْ دَارِهِمْ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ بِأَنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ؛ فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ، إلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ، وَإِنْ هُمْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ.وَذَكَرْنَا فِي الْحَدِيثِ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ تَوَقَّفَ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ، حَتَّى أَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ.وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَرَبِ مَجُوسٌ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ أَسْلَمَ، فَمَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ؛ يُقْتَلُ بِكُلِّ حَالٍ إنْ لَمْ يُسْلِمْ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ جِزْيَةٌ.وَالصَّحِيحُ قَبُولُهَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ، وَفِي كُلِّ حَالٍ عِنْدَ الدُّعَاءِ إلَيْهَا وَالْإِجَابَةِ بِهَا..المسألة الثامنة: [مَحِلُّ الْجِزْيَةِ]: وَمَحِلُّهَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ الْأَحْرَارُ الْبَالِغُونَ الْعُقَلَاءُ دُونَ الْمَجَانِينِ، وَهُمْ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ، دُونَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ لِذَلِكَ.وَاخْتُلِفَ فِي الرُّهْبَانِ؛ فَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ.قَالَ مُطَرِّفٌ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: هَذَا إذَا لَمْ يَتَرَهَّبْ بَعْدَ فَرْضِهَا، فَإِنْ فُرِضَتْ، لَمْ يُسْقِطْهَا تَرَهُّبُهُ.وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: وَسَتَجِدُ قَوْمًا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ، فَذَرْهُمْ وَمَا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ، فَإِذَا لَمْ يَهِيجُوا، وَلَمْ يَقْتُلُوا لَمْ تُطْلَبْ مِنْهُمْ جِزْيَةٌ؛ لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْ الْقَتْلِ..المسألة التاسعة: قَوْله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ}: فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ قَوْلًا:الْأَوَّلُ: أَنْ يُعْطِيَهَا وَهُوَ قَائِمٌ وَالْآخِذُ جَالِسٌ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ.الثَّانِي: يُعْطُونَهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ يَمْشُونَ بِهَا؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.الثَّالِثُ: يَعْنِي مِنْ يَدِهِ إلَى يَدِ آخِذِهِ، كَمَا تَقُولُ: كَلَّمَتْهُ فَمًا لِفَمٍ، وَلَقِيَتْهُ كِفَّةً كِفَّةً، وَأَعْطَيْته يَدًا عَنْ يَدٍ.الرَّابِعُ: عَنْ قُوَّةٍ مِنْهُمْ.الْخَامِسُ: عَنْ ظُهُورٍ.
|